Popular Posts

Wednesday, October 9, 2013

العد التصاعدي - 6

نامت سلمى لليلة آخرى بعمق كالميتة على الأرض حيث نهشت جلدها وجمعت كآبتها وانكمشت على روحها، 
نامت حتى الصباح بعد شروق الشمس أكثر من أيام الأسبوع العادية، بغير وعي كان جسدها قد تبرمج على النوم المزيد قليلًا أيام العطل، ولم توقظها صوت العصافير التي تحمل الشمس من خلف الجبال وتعلقها في أعلى السماء في الصباحات الربيعية المدهشة ..
أيقظها صوت بكاء طفلةٍ صغيرة وبعض الصخب في الطابق السفلي من المنزل حيث المطبخ وغرف المعيشة والضيوف.
فتحت عينيها بصعوبة كأنها شربت وثملت ونامت، هذا ما يفعله البكاء المرير طول الليل، وما تفعله الكآبة الشديدة دون أي تفريغ عاطفي أو نفسي، أصغت للفوضى قليلًا؛ كان صوت عمتها المجنون يتحدث بصوت عالٍ أو ربما كانت تصرخ فحسب ، فهذا الصوت لا يمكن أن يؤثر فيها بعد كل تلك السنوات لأن أذنيها اعتاداتاه، وثمة نباح كلبٍ صغير أيضًا بالاضافة إلى بكاء الطفلة المتقطع والهائج، ورجلٌ غريب يبدو من نبرة صوته كأنه بائع يتفاوض .. وروائح الافطار الشهي الذي تعده سالينا الاندونسية تتصاعد مع كل هذه الفوضى ..
همست سلمى لنفسها : لا بد أنه حلم، وأغمضت عينيها ثانية لثوانٍ قليلة وفتحتهما أكثر نشاطًا ..
أسرعت ووضعت رداءً على ملابس العمل التي لم تغيرها من البارحة ثم انزلقت بخفة تعبر الممر من غرفتها إلى الدرج المؤدي للطابق الأول ونزلت بذات الخفة الدرجات الـ 11 والتفت عند منتصفها برشاقة وأكملت نزول العشر درجات الأخيرة لتقف أمام مشهد العمة التي تتحدث إلى رجلٍ تتمسك به طفلة تبكي ويتلصق بها كلب تشيواوا صغير وحقائب وردية للملابس عليها رسوم أطفال حزرت سلمى أنها طفلة آخرى ألقيت لهذا المنزل، وكانت محقة ..
..
كانت طفلة في الرابعة  أو أقل بشعر بني شهيٍ أشبه بزبدة البندق مقسوم بإهمال لضفيرتين على كتفيها ، وعينين ملونتين تنضحان دموعًا كالمطر وسط نشيجها وشهقاتها .. وتردد كلامًا غير مفهومًا نهائيًا، تتمسك ببنطال الرجل الذي اتضح أنه والدها، وكلبها الصغير البني ملتصق بها وينبح بين الحين والآخر بخفوت وخوف .. يتآزر مع مالكته بالبكاء والخوف والقلق ..
يريد والدها أن يتركها حتى يستقر وضعه، بعد أن هجرتهما والدتها الأجنبية وهربت مع عشيقها، لكن العمة تتذمر من قلة المبلغ الذي سيتركه كمصروف للطفلة، بينما تبكي الطفلة التي لا تتحدث حرفًا عربيًا واحدًا لأنها مرت بالكثير مؤخرًا وتشعر الآن أن والدها سيتركها مع هؤلاء الغرباء وسيهرب مثلما هربت أمها ..
مرت سلمى بجوارهم كأنها لم ترهم وجلست إلى طاولة الطعام وطلبت الافطار من سالينا، قدمته لها سالينا على طاولة الطعام  وبدأت تتناول البيض المقلي وقطع السجق مع خبز التوست وكوب قهوة صباحية لذيذة، جذبت الرائحة الكلب الصغير الجائع ودفعته للوقوف بقرب قدمي سلمى وينظر إليها بتوسل .. ألقت له سلمى قطعة سجق صغيرة فتناولها الكلب بسرعة وعاد إلى مالكته الصغيرة والتي كانت تبكي بشدة الآن لأن والدها يخبرها أنه سيأخذ الكلب فلا مكان له في هذا المنزل ..
والكلب يشد الصغيرة من طرف فستانها لتأتي معه إلى طاولة الطعام ..
نزاعٌ بين الأب وطفلته ، العمة ستحتمل الطفلة لكن لاتريد الكلب ، والطفلة يستحيل عليها التخلي عن الكلب الذي سيكون هو الكائن الوحيد الذي بقي بجوارها من قبل مولدها، فأمها اشترته رضيعًا حين كانت حاملًا بها وربته مع ابنتها .. وعمره يقارب عمر هذه الطفلة .. 
كانت سلمى تمضغ قطع الطعام بمشقة رغم تظاهرها باللامبالاة ، هذه الطفلة تذكرها بيوم مجيئها هنا، لكنها كانت أكثر انكسارًا بعد جنازة والدها وتبكي بصمت ، وكانت أكبر قليلًا من هذه الطفلة وأكثر إدراكًا، وتعرف أنها فقدت كل شيء فلذا صمتت تبتلع يتمها وتجتر خوفها من أجل النجاة في هذه الحياة الصعبة ، لكن هذه الطفلة أصغر وتشعر بالغدر والخوف أكثر، بدت سلمى كأنها تنازع نفسها من أجل هذه الطفلة ، أرادت أن تقول شيئًا وحاولت التجاهل قدر استطاعتها، لكن من أجل نفسها التي جاءت قبل 26 عامًا ولم يدافع عنها أحد ستتحدث ..
- دعيها تحتفظ بالكلب يا عمتي، الحديقة كبيرة ، وبكاؤها مزعج ، أرسل نفقة إضافية للكلب وستسير الأمور على ما يرام - قالت هذا لوالد الطفلة - والتفت مدهوشًا نحو الشخص الذي يتحدث ، كانت قريبته من ناحية ما، تخبره بذلك بشرتها البيضاء التي تشترك بها هذه الأسرة وتسعى للحفاظ عليها في نسلها، لكنه لم يلحظ وجودها حتى تحدثت ..
بدا الكلب متحمسًا لحديث سلمى وكأنه شعر بمؤازرتها، واتجه نحوها، وراحت الطفلة تلحقه : دومينيك .. دومينيك .. تناديه بصوت طفولي أشبه بقطعة حلوى شهية ..
وقف الكلب أمام سلمى ، ووقفت الطفلة خلفه تمامًا .. وحدقت في وجه سلمى وحدقت سلمى في عينيها الواسعتين بلونهما الضائع مابين الأزرق والأخضر والرمادي .. ووجهها الجميل الواضح فيه قسماتها الأجنبية الخليطة بدمها العربي ، بشعرها البني الأغمق من شعر كلبها البني أيضًا ولكن بطبقة أفتح وكأنه يميل للذهبي، حدقت بسلمى لبعض الوقت ثم أسرعت نحو والدها الذي ناداها : ألينا .. ألينا ..
كانت قد توقفت عن البكاء، وعادت سلمى لتكمل كوب القهوة بعد أن فقدت شهيتها لإكمال طعامها..
ودع الأب ابنته ألينا لكنها لم تبكي، كان قد وعدها أن يعود لها قريبًا ليأخذها، وخرج وهو يدمع، بينما وقفت الطفلة تحدق في سلمى من بعيد، وحين أتت سالينا لتأخذ الحقائب وتأخذ الطفلة للأعلى لغرفتها الجديدة كانت سلمى قد أنهت قهوتها ووقفت لتعود لغرفتها ، جرت الطفلة نحوها واختبأت خلف سلمى وجرى الكلب معها واختبأ خلفها هو أيضًا..
وشعرت سلمى أنها في موقف غريب لم تمر به قبلًا، ببعض القوة لأن أحدهم يحتمي بها، وبكثير من الغرابة لأنها لم تكن على اتصال مع أحد هكذا من وقتٍ طويل ..
رفضت الطفلة الصعود وتشبثت بسلمى التي تسمرت تفكر ما الذي عليها أن تفعله!
والخادمة تحاول نزع الطفلة من خلف سلمى بينما قاومت الطفلة ونبح الكلب واستدارت سلمى لتشير للخادمة أن عليها التوقف عن المحاولة للآن ..
بينما تشاهد العمة ذلك من أمام الباب مرت بها عاصفة باردة قوضت عظامها وأشعرتها بكثير من الغربة في دارها !

No comments:

Post a Comment