Popular Posts

Sunday, October 6, 2013

العد التصاعدي - 5

انكمش نصر في كرسيه وقرر ألا يخاطر ثانية بالحديث إليها، وأدركت هي ذلك ..
تبدو سلمى أحيانًا ببشرتها البيضاء الشاحبة  أشبه بكاهنة بدينة، صمتها يعلمها الكثير من الأشياء التي لا يمكن إدراكها إلا بالاصغاء العميق للعالم المحيط، وهي تصغي بعمق لأنها صامتة تمامًا، حتى أنفاسها لا تكاد تسمع مهما اقترب المرء منها.
سيكون من الممل لو أنها تركت لنصر اللعبة كاملة يقودها حسب نمط شخصيته الجبان، ولا إراديًا كان ثمة شيطان يفكر بعمق داخلها ، امرأة ماكرة تجيد قواعد اللعبة بلا مبالاتها وإدراكها العميق لما حولها وتظاهرها باللامبالاة..
فلتقم لعبتها وفق قواعدها مع نصر ولتتسلى معه قليلًا، فليس لديها ما تخسره في هذا العالم إطلاقًا..
تظاهرت بتجاهله لبضع ساعات آخرى حتى ألف هذا التجاهل وفجأة قريب وقت الغداء سألته إن كان يشعر بالراحة في هذا المكتب معها؟ - هكذا كان السؤال -، وهكذا ضغطت على كلمة : "معي ؟" حين سألته .. وشعر فجأة بالخوف .. لكنها ابتسمت بدفيء حقيقي هذه المرة واهتمام بالغ جعل نصر يبلع لعابه وتهدأ أنفاسه ويجيب بلطف طفل استسلم للشعور بالأمان : نعم .. أنا بخير .. شكرًا لتحملي..
ضحكت بدون صوت تقريبًا وقالت : لا يوجد في الأمر أي تحمل .. أنت هاديء جدًا ولا أكاد أشعر بك!
ابتسم وأعاد شكرها ثانية ثم استأذن للخروج لتناول وجبة الغداء، في حين أخرجت هي صندوق غدائها وعاد وجهها بلا تعابير تقريبًا كعادته.
حين عاد نصر أدرك بغريزته أن الود الذي حل قبل خروجه تبخر تمامًا وأن الجو عاد باردًا لما كان عليه وشعر بقشعريرة باردة تسري في جسده .. لكنه فكر أن الأمر سيستغرق بعض الوقت ..
استمرا في العمل بصمت لا تسمع في ذلك المكتب غير أنفاس نصر وتكتات لوحات المفاتيح وطقطقة الأقلام على وجه الأوراق ..
انتهى الدوام، ولم ترفع سلمى عينها مجددًا ناحية نصر، وبدا كأنها تتعمد تجنبه، لكنها كانت قد ألغت وجوده مجددًا بينما قضى هو الساعات الأخيرة وهو ينظر إليها  بين الحين والآخر منتظرًا بادرةً دافئة آخرى ..
لملمت سلمى أغراضها وقررت اليوم المشي للمنزل ..، بعد بضعة دقائق من المشي بعيدًا عن المنظمة بدأت تسمع المعاكسات والشتائم والغزل البذيء، لم يتركوا شيئًا في جسدها دون تعليق أو كلمة أو حتى شتيمة أو إيحاء جنسي بذيء، ناهيك عن الكلمات السوقية المبتذلة .. كلها سمعتها في الطريق للمنزل، وكالمعتاد تظاهرت أنها لا تسمع شيئًا ، لكن كل كلمة تقال كانت كحجر يرمى في وجهها وعلى جسدها .. تدمي روحها وتمزق النسق الذي ينبغي أن تسير به الأمور حين يمشي المرء لبعض الوقت ..
تعرضت لمحاولة لمس وتحرش يدوي لكنها تفادتها برشاقة ومهارة من تعود على هذه الأمور، لكن مهما تعودت على هذا الأمر تظل ..
تمر بخوف وقلق كلما امتدت يدٌ لتلمس جسدها بقذارتها وتفزع راحتها وأمانها، 
كانت تعبر شارع فرعي حين مرت سيارة مسرعة وكاد صاحبها أن يدهسها قبل أن تسرع خطاها وتعبر، وبالإضافة لخوفها من  الدهس سمعت صاحب السيارة يصرخ فيها : عليك اللعنة يا بقرة .. 
مشت طويلًا حتى وصلت للبيت ، كادت أن تقع على الأرض من توترها مرتين وفي آخر لحظة تماسكت، ووصلت المنزل بعد مشي يفترض أنه أراحها وخفف توتر قلبها  أشد توترًا وخوفًا وقلقًا .. بدت كطفلة ترغب في الوقوع أرضًا والانخراط باكية بمرارة ..
تمنت في تلك اللحظة أن تموت، لا يبدو أنه في حياتها أي متنفس أو مخرج أو نهاية لكل هذا العذاب، رغبت بشدة أن تكون تلك السيارة قد دهستها أو أن تعلق نفسها في سقف غرفتها وتختنق أو حتى تتناول كمية مهولة من المنوم لتنام نومتها الأبدية ..
وأعادت مشاعرها تلك كل أفكارها السوداوية إلى رأسها وانفجر الوجع في قلبها .. ولم تدرِ ماذا تلوم أو من تلوم ..
وألقت اليوم لومها كله على أنها امرأة .. أنثى ..
لو أنها ولدت صبيًا لما ألقتها أمها ولما عاملتها عمتها بدناءة ولأمكنها التخلص من حياتها هذه ببساطة ..
لما عاملها المجتمع باحتقار ولما اضطهد أبسط حقوقها في المشي في الشارع العام مثلما تمشي الكلاب والقطط بأمان  ..
لو أنها لم تكن سلمى وكانت سالم أو أي اسم آخر مذكر ... 
لم تكن سلمى قادرة على البكاء حتى في أصعب الأوقات .. من وقت طويل أصبحت هكذا عاجزة عن ذرف الدموع ..
لكن كل فكرة تطوف برأسها تجعله يدور وقلبها يعصف وينزف مثل عصفور في يد تعصره بقسوة ..
في زاوية غرفتها انكمشت سلمى على نفسها وكأنها ابتلعت سمًا مريرًا تنهش بأصابعها وتحرث بأظافرها بشرة ذراعها حتى يسيل الدم ولا يبدو أنها تعي ذلك أو تشعر به ..
تدمر جسدها لأنها عاجزة تمامًا عن تدمير الألم والوجع اللذان تمر بهما.

No comments:

Post a Comment