Popular Posts

Sunday, October 13, 2013

العد التصاعدي -8

أسرعت سلمى ووضعت الطفلة في حضنها وضمتها إلى صدرها، وطفقت تمسح دموعها وتحاول تهدئتها، بكت الطفلة حتى تعبت وسكنت ، ناولتها سلمى كوبًا من الماء، وحملتها بين ذراعيها صوب الحديقة خلف المنزل، لاعبتها طوال فترة الظهيرة بالمراجيح وكرات قديمة موجودة من وقت طويل وقطفتا الأزهار معًا وعلقتاها بشعريهما وركضتا وراء الكلب حتى تعبتا من الركض، وحين بردت الشمس قليلًا عادتا للمنزل، غيرتا ملابسهما كأم وابنتها لا توجد لغة تواصل بينهما غير الإشارة وبعض الكلمات البسيطة التي بدأت لين تفهمها قليلًا واستعدتا للخروج معًا لتناول الغداء، تركت دومينيك في الحديقة بعد أن قدمت له الغداء، ركبتا سيارة أجرة ونزلتا عند مطعم قريب يقدم وجبات للأطفال وتناولتا وجبة لطيفة ، تورد خدا سلمى ولمعت عيناها بشغف غريب، واستعادت حياة قلبها وهي تستكشف حياة جديدة في عيني لين الجميلتين، تستمد بهجتها من ابتسامة لين الهشة وضحكاتها الخجولة المقصوصة من بهجة الربيع ..

سلمى التي لم تحظ بأم إلا لسنوات عمرها الخمس الأولى كانت تعرف بقلبها ما ينبغي على الأم أن تقدمه لابنتها وما عليها أن تفعله، الحرمان الذي عاشته خلق في ذهنها صورة متكاملة عن الأم كانت بحاجة إليها، وبلا وعي كانت تصنع صورة من ذهنها وتكون أمًا للين .. تلمس شعرها وتسأل نفسها بقلبٍ واجف: كيف استطاعت أم لين أن تترك طفلة بهذا الجمال وهذه الوداعة ؟

بعد الغداء طافت بها سلمى في محلات الألعاب، والمكتبات ومحلات الملابس، اشترت لها ألعابًا ودمىً وكراسات رسم وتلوين وأقلام ملونة كثيرة وملابس خفيفة للعب والمنزل، لم يكن منزل العمة مليئًا بالفتيات، غالبًا كان الذين يأتون للمنزل فتيانًا وصبيانًا، كانت سلمى هي الفتاة الأخيرة ، وحين أتت كانت هناك فتاة شابة تزوجت بعد عامٍ من بقاء سلمى معها، أحبتها سلمى وقتها رغم أن الفتاة كانت لا مبالية ولم تأبه لوجود سلمى قط، ومن حين غادرت لم تأتِ فتاة واحدة .. لذا ابتهجت سلمى بحضور لين..واشترت لها ألعابًا بناتية كثيرة يخلو منها البيت الكبير ..
عادتا للمنزل بعد جولة مرهقة، أعدت سلمى للين وجبة عشاء خفيفة بنفسها وهدهدتها بالأغاني الطفولية التي تذكرها حتى نامت لين في حضنها ونامت سلمى معها، لأول مرة من سنوات طويلة تنام سلمى بقلب خفيف كورقة توت ترقص في نسيم الليل الربيعي الممتليء برائحة ملكة الليل مخمرة بالياسمين ..
نامت سلمى وحتى وجهها بدا أجمل بكثير وشعرت أن جسدها أخف مما هو عليه ..
. .
صباحًا ودعت لين بقبلة ووعدتها أن تعود عندما تصير الساعة عند الثانية ويبدو أن لين فهمت أنها ستعود، وتركتها مع سالينا ودومينيك وعلب الألوان والكراسات والألعاب، وكتبت لها رقم موبايلها لتحادثها عندما ترغب ..
وصلت سلمى للعمل وبدا وجه نصر لها أليفًا ، وشعور غامر يملأها، ترغب في تحيته بحرارة وفعلت، مما أثار دهشته ورد التحية بتخوف قليل، وأحس كأنها ترغب في الحديث إليه وتردد في تصديق شعوره، جلست سلمى إلى مكتبها وانكبت تعمل .. وكل قليل تطالع ساعتها، وكل ساعة تتصل إلى المنزل وتتحدث إلى لين بقليل كلمات وتفرح بسماع صوتها بكلمات أقل..
..
أخذت سلمى إجازة لليوم التالي، تعجب المشرف حين منحها الاذن لأنها لم تأخذ إجازة من حين بدأت العمل معهم ، أرادت قضاء مزيد من الوقت مع لين، وعادت للمنزل مسرعة في سيارة أجرة متلفهة للقاء لين، لكنها لم تجد في استقبالها غير دومينيك ينبح مبتهجًا ويدور حولها ، سألت سالينا عن لين ، بدا أن الأخيرة لا تستطيع شرح ما تريده ولا تستطيع التواصل مع من حولها بسبب عائق اللغة فبكت من الضيق ومن محاولات إفهام سالينا ما تريده حتى تعبت ونامت على الأرض، وضعتها سالينا على الكنبة الكبيرة في غرفة المعيشة وغطتها جيدًا، انحنت سلمى على وجه الطفلة الحزين ودموعها الجافة في أطراف عينيها وقبلت عينيها وهي توشك على البكاء، حملتها إلى الغرفة واستيقظت لين في حضن سلمى وهي تصعد درجات سلم الدور الثاني وتعلقت برقبتها كمن وجد شيئًا فقده ، قبلت وجنتها سلمى وابتسمت براحة غريبة كأن ثلجًا كان يتساقط في قلبها وسط ضوء النهار .. 

Saturday, October 12, 2013

العد التصاعدي - 7

للمرة الأولى بسنوات عمر سلمى الواحدة والثلاثين يذوب الجليد الذي حول روحها، وتشعر بالقوة لحماية أيٍ كان، استيقظت غريزة الأمومة البدائية لديها، ورغبت بشدة في حماية هذه الطفلة مما تعرضت له في صغرها،  أرادت أن تقول كل الكلمات التي لم تستطع قولها منذ كانت بالخامسة، وحررت نفسها من الخوف الذي عاشت فيه كل هذه السنوات الطويلة، وواجهت عمتها، واتخذت قرارها بالاعتناء بهذه الصغيرة حتى يعود والدها، دون أن تحسب صعوبات وعقوبات هذا القرار الصعب والغريب تمامًا عما واجهته في حياتها.
بدون كلمة واحدة أشارت لسالينا بأنها ستتدبر الأمر،وحملت الطفلة على ذراعها، وسحبت الحقائب بيدها الآخرى، لم تنظر إلى عمتها مطلقًا إنما شعرت جيدًا أن عمتها في موقف العاجز وارتاحت لهذا الشعور كثيرًا، تبعها الكلب ودخلوا غرفة سلمى وأغلقت الباب.
بدت الطفلة مرهقة جدًا أو هكذا خيل لسلمى لأنها جاءت من بلاد بعيدة في رحلة طويلة، أخذتها واحتضنتها وأمسكت  بيدها ودغدغتها، وبدا أن الطفلة تضحك وتشعر بالراحة والأمان مع سلمى ، وسلمى شعرت بكثير من الحياة في وجود هذه الطفلة، الكثير من المشاعر التي لم تشعر بها من وقت طويل، الكثير من الإنسانية التي افتقدتها في حياتها التي تدور بها كساقية ماء تأخذها وتعيدها إلى النهر الذي تسير فيه كل يوم، نزعت ملابس الطفلة عن جسدها القمحي ذو الجلد الشفاف، وملأت حوض الاستحمام بماء دافيء وصابون سائل معطر، أخذت ألينا والكلب إلى الحمام ولعبوا طويلًا هناك قبل أن تغسل سلمى شعر ألينا البني وتدعك جسدها جيدًا وتقوم ألينا بغسل كلبها وهو ينزلق من يديها الصغيرتين وينبح بابتهاج ، نشفت سلمى شعر ألينا وألبستها ثوبًا أبيضًا بلون سماويٍ فاتح ليس عليه أية أزهار أو تفاصيل كثيرة، بسيط جدًا بدت فيه ألينا جميلة ومهندمة خاصة بعد أن مشطت سلمى شعرها إلى ذيلين منخفضين تحت أذنيها وتركت باقي شعرها البني ينساب على كتفيها ، سلمى أيضًا استحمت وارتدت ملبسًا قطنيًا بلون أخضر يظهر بياض بشرتها كثيرًا، بعدها نزلوا مجددًا لصالة الطعام وتناولت ألينا وجبتها بإشراف سلمى، وحضرت سالينا وجبة للكلب دومينيك الذي تناولها مبتهجًا.
أخذتهم سلمى للغرفة واستلقت بجوار ألينا التي بدت هادئة وخاملة وناعسة، نام الكلب الصغير بينهما على سرير سلمى، وأخذت سلمى تحدث ألينا التي لا يبدو أنها تفهم كثيرًا مما تقول : أنا سلمى ... سأدعوك لين ..
أشارت إلى نفسها : سلمى .. سلمى ..
همست ألينا : سلمـــى..
ابتسمت سلمى وأشارت إليها : لين ..
قالت ألينا : ألينا (وكأنها فهمت أنها تناديها باسم آخر)
أعادت سلمى : لين .. سأدعوك لين ..
ابتسمت ألينا : لين ..
قالت لها سلمى : أنت جميلة يا لين .. وطبعت قبلة صغيرة على جبينها أعلى ما بين عينيها ، وابتسمت لين باسترخاء شديد وكأنها تعي المديح الذي تسمعه أو تشعر بشعور سلمى نحوها ..
أغمضت عينيها ونامت لين بوجه ملائكي جميل أذاب قلب سلمى ، وتمنت لو أن هذه اللحظة تدوم للأبد، هي بمشاعرها هذه كلها، ولين النائمة كابنة أحد الآلهة برموشها الطويلة وشفتيها الصغيرتين شبه المفتوحتين وشعرها الذي يضفي عليها سحرًا وسلامًا وبساطة على بساطة فستانها السماوي ، والكلب الصغير النائم ما بينهما بسلام وأمان، وتعجبت سلمى قليلًا لأنها أحبت وجود هذا الكلب رغم أنها لم تحب الحيوانات قط .. 
غطت سلمى لين وظلت بجوارها تراقب أنفاسها ووجهها وجمالها الذي خطف أنفاسها، وتمنتها لنفسها، أن تمتلك هذه الطفلة للأبد ، وأن تبقى هذه اللحظات الساحرة لآخر العمر ..
بعد ساعة من الوقت فتح الكلب عينه وأخذ يدور حول لين بينما سلمى تحاول ابعاده عنها لئلا يوقظها، وفتحت لين عينيها بسبب حركة كلبها وقفزه عليها .....
للوهلة الأولى شعرت لين بالخوف والصدمة لأنها وجدت نفسها في مكانٍ غريب لم تتذكر أنها جاءت إليه، ولم تر وجه أبيها ولا وجه أمها، وبدأت بالبكاء ..

Wednesday, October 9, 2013

العد التصاعدي - 6

نامت سلمى لليلة آخرى بعمق كالميتة على الأرض حيث نهشت جلدها وجمعت كآبتها وانكمشت على روحها، 
نامت حتى الصباح بعد شروق الشمس أكثر من أيام الأسبوع العادية، بغير وعي كان جسدها قد تبرمج على النوم المزيد قليلًا أيام العطل، ولم توقظها صوت العصافير التي تحمل الشمس من خلف الجبال وتعلقها في أعلى السماء في الصباحات الربيعية المدهشة ..
أيقظها صوت بكاء طفلةٍ صغيرة وبعض الصخب في الطابق السفلي من المنزل حيث المطبخ وغرف المعيشة والضيوف.
فتحت عينيها بصعوبة كأنها شربت وثملت ونامت، هذا ما يفعله البكاء المرير طول الليل، وما تفعله الكآبة الشديدة دون أي تفريغ عاطفي أو نفسي، أصغت للفوضى قليلًا؛ كان صوت عمتها المجنون يتحدث بصوت عالٍ أو ربما كانت تصرخ فحسب ، فهذا الصوت لا يمكن أن يؤثر فيها بعد كل تلك السنوات لأن أذنيها اعتاداتاه، وثمة نباح كلبٍ صغير أيضًا بالاضافة إلى بكاء الطفلة المتقطع والهائج، ورجلٌ غريب يبدو من نبرة صوته كأنه بائع يتفاوض .. وروائح الافطار الشهي الذي تعده سالينا الاندونسية تتصاعد مع كل هذه الفوضى ..
همست سلمى لنفسها : لا بد أنه حلم، وأغمضت عينيها ثانية لثوانٍ قليلة وفتحتهما أكثر نشاطًا ..
أسرعت ووضعت رداءً على ملابس العمل التي لم تغيرها من البارحة ثم انزلقت بخفة تعبر الممر من غرفتها إلى الدرج المؤدي للطابق الأول ونزلت بذات الخفة الدرجات الـ 11 والتفت عند منتصفها برشاقة وأكملت نزول العشر درجات الأخيرة لتقف أمام مشهد العمة التي تتحدث إلى رجلٍ تتمسك به طفلة تبكي ويتلصق بها كلب تشيواوا صغير وحقائب وردية للملابس عليها رسوم أطفال حزرت سلمى أنها طفلة آخرى ألقيت لهذا المنزل، وكانت محقة ..
..
كانت طفلة في الرابعة  أو أقل بشعر بني شهيٍ أشبه بزبدة البندق مقسوم بإهمال لضفيرتين على كتفيها ، وعينين ملونتين تنضحان دموعًا كالمطر وسط نشيجها وشهقاتها .. وتردد كلامًا غير مفهومًا نهائيًا، تتمسك ببنطال الرجل الذي اتضح أنه والدها، وكلبها الصغير البني ملتصق بها وينبح بين الحين والآخر بخفوت وخوف .. يتآزر مع مالكته بالبكاء والخوف والقلق ..
يريد والدها أن يتركها حتى يستقر وضعه، بعد أن هجرتهما والدتها الأجنبية وهربت مع عشيقها، لكن العمة تتذمر من قلة المبلغ الذي سيتركه كمصروف للطفلة، بينما تبكي الطفلة التي لا تتحدث حرفًا عربيًا واحدًا لأنها مرت بالكثير مؤخرًا وتشعر الآن أن والدها سيتركها مع هؤلاء الغرباء وسيهرب مثلما هربت أمها ..
مرت سلمى بجوارهم كأنها لم ترهم وجلست إلى طاولة الطعام وطلبت الافطار من سالينا، قدمته لها سالينا على طاولة الطعام  وبدأت تتناول البيض المقلي وقطع السجق مع خبز التوست وكوب قهوة صباحية لذيذة، جذبت الرائحة الكلب الصغير الجائع ودفعته للوقوف بقرب قدمي سلمى وينظر إليها بتوسل .. ألقت له سلمى قطعة سجق صغيرة فتناولها الكلب بسرعة وعاد إلى مالكته الصغيرة والتي كانت تبكي بشدة الآن لأن والدها يخبرها أنه سيأخذ الكلب فلا مكان له في هذا المنزل ..
والكلب يشد الصغيرة من طرف فستانها لتأتي معه إلى طاولة الطعام ..
نزاعٌ بين الأب وطفلته ، العمة ستحتمل الطفلة لكن لاتريد الكلب ، والطفلة يستحيل عليها التخلي عن الكلب الذي سيكون هو الكائن الوحيد الذي بقي بجوارها من قبل مولدها، فأمها اشترته رضيعًا حين كانت حاملًا بها وربته مع ابنتها .. وعمره يقارب عمر هذه الطفلة .. 
كانت سلمى تمضغ قطع الطعام بمشقة رغم تظاهرها باللامبالاة ، هذه الطفلة تذكرها بيوم مجيئها هنا، لكنها كانت أكثر انكسارًا بعد جنازة والدها وتبكي بصمت ، وكانت أكبر قليلًا من هذه الطفلة وأكثر إدراكًا، وتعرف أنها فقدت كل شيء فلذا صمتت تبتلع يتمها وتجتر خوفها من أجل النجاة في هذه الحياة الصعبة ، لكن هذه الطفلة أصغر وتشعر بالغدر والخوف أكثر، بدت سلمى كأنها تنازع نفسها من أجل هذه الطفلة ، أرادت أن تقول شيئًا وحاولت التجاهل قدر استطاعتها، لكن من أجل نفسها التي جاءت قبل 26 عامًا ولم يدافع عنها أحد ستتحدث ..
- دعيها تحتفظ بالكلب يا عمتي، الحديقة كبيرة ، وبكاؤها مزعج ، أرسل نفقة إضافية للكلب وستسير الأمور على ما يرام - قالت هذا لوالد الطفلة - والتفت مدهوشًا نحو الشخص الذي يتحدث ، كانت قريبته من ناحية ما، تخبره بذلك بشرتها البيضاء التي تشترك بها هذه الأسرة وتسعى للحفاظ عليها في نسلها، لكنه لم يلحظ وجودها حتى تحدثت ..
بدا الكلب متحمسًا لحديث سلمى وكأنه شعر بمؤازرتها، واتجه نحوها، وراحت الطفلة تلحقه : دومينيك .. دومينيك .. تناديه بصوت طفولي أشبه بقطعة حلوى شهية ..
وقف الكلب أمام سلمى ، ووقفت الطفلة خلفه تمامًا .. وحدقت في وجه سلمى وحدقت سلمى في عينيها الواسعتين بلونهما الضائع مابين الأزرق والأخضر والرمادي .. ووجهها الجميل الواضح فيه قسماتها الأجنبية الخليطة بدمها العربي ، بشعرها البني الأغمق من شعر كلبها البني أيضًا ولكن بطبقة أفتح وكأنه يميل للذهبي، حدقت بسلمى لبعض الوقت ثم أسرعت نحو والدها الذي ناداها : ألينا .. ألينا ..
كانت قد توقفت عن البكاء، وعادت سلمى لتكمل كوب القهوة بعد أن فقدت شهيتها لإكمال طعامها..
ودع الأب ابنته ألينا لكنها لم تبكي، كان قد وعدها أن يعود لها قريبًا ليأخذها، وخرج وهو يدمع، بينما وقفت الطفلة تحدق في سلمى من بعيد، وحين أتت سالينا لتأخذ الحقائب وتأخذ الطفلة للأعلى لغرفتها الجديدة كانت سلمى قد أنهت قهوتها ووقفت لتعود لغرفتها ، جرت الطفلة نحوها واختبأت خلف سلمى وجرى الكلب معها واختبأ خلفها هو أيضًا..
وشعرت سلمى أنها في موقف غريب لم تمر به قبلًا، ببعض القوة لأن أحدهم يحتمي بها، وبكثير من الغرابة لأنها لم تكن على اتصال مع أحد هكذا من وقتٍ طويل ..
رفضت الطفلة الصعود وتشبثت بسلمى التي تسمرت تفكر ما الذي عليها أن تفعله!
والخادمة تحاول نزع الطفلة من خلف سلمى بينما قاومت الطفلة ونبح الكلب واستدارت سلمى لتشير للخادمة أن عليها التوقف عن المحاولة للآن ..
بينما تشاهد العمة ذلك من أمام الباب مرت بها عاصفة باردة قوضت عظامها وأشعرتها بكثير من الغربة في دارها !

Sunday, October 6, 2013

العد التصاعدي - 5

انكمش نصر في كرسيه وقرر ألا يخاطر ثانية بالحديث إليها، وأدركت هي ذلك ..
تبدو سلمى أحيانًا ببشرتها البيضاء الشاحبة  أشبه بكاهنة بدينة، صمتها يعلمها الكثير من الأشياء التي لا يمكن إدراكها إلا بالاصغاء العميق للعالم المحيط، وهي تصغي بعمق لأنها صامتة تمامًا، حتى أنفاسها لا تكاد تسمع مهما اقترب المرء منها.
سيكون من الممل لو أنها تركت لنصر اللعبة كاملة يقودها حسب نمط شخصيته الجبان، ولا إراديًا كان ثمة شيطان يفكر بعمق داخلها ، امرأة ماكرة تجيد قواعد اللعبة بلا مبالاتها وإدراكها العميق لما حولها وتظاهرها باللامبالاة..
فلتقم لعبتها وفق قواعدها مع نصر ولتتسلى معه قليلًا، فليس لديها ما تخسره في هذا العالم إطلاقًا..
تظاهرت بتجاهله لبضع ساعات آخرى حتى ألف هذا التجاهل وفجأة قريب وقت الغداء سألته إن كان يشعر بالراحة في هذا المكتب معها؟ - هكذا كان السؤال -، وهكذا ضغطت على كلمة : "معي ؟" حين سألته .. وشعر فجأة بالخوف .. لكنها ابتسمت بدفيء حقيقي هذه المرة واهتمام بالغ جعل نصر يبلع لعابه وتهدأ أنفاسه ويجيب بلطف طفل استسلم للشعور بالأمان : نعم .. أنا بخير .. شكرًا لتحملي..
ضحكت بدون صوت تقريبًا وقالت : لا يوجد في الأمر أي تحمل .. أنت هاديء جدًا ولا أكاد أشعر بك!
ابتسم وأعاد شكرها ثانية ثم استأذن للخروج لتناول وجبة الغداء، في حين أخرجت هي صندوق غدائها وعاد وجهها بلا تعابير تقريبًا كعادته.
حين عاد نصر أدرك بغريزته أن الود الذي حل قبل خروجه تبخر تمامًا وأن الجو عاد باردًا لما كان عليه وشعر بقشعريرة باردة تسري في جسده .. لكنه فكر أن الأمر سيستغرق بعض الوقت ..
استمرا في العمل بصمت لا تسمع في ذلك المكتب غير أنفاس نصر وتكتات لوحات المفاتيح وطقطقة الأقلام على وجه الأوراق ..
انتهى الدوام، ولم ترفع سلمى عينها مجددًا ناحية نصر، وبدا كأنها تتعمد تجنبه، لكنها كانت قد ألغت وجوده مجددًا بينما قضى هو الساعات الأخيرة وهو ينظر إليها  بين الحين والآخر منتظرًا بادرةً دافئة آخرى ..
لملمت سلمى أغراضها وقررت اليوم المشي للمنزل ..، بعد بضعة دقائق من المشي بعيدًا عن المنظمة بدأت تسمع المعاكسات والشتائم والغزل البذيء، لم يتركوا شيئًا في جسدها دون تعليق أو كلمة أو حتى شتيمة أو إيحاء جنسي بذيء، ناهيك عن الكلمات السوقية المبتذلة .. كلها سمعتها في الطريق للمنزل، وكالمعتاد تظاهرت أنها لا تسمع شيئًا ، لكن كل كلمة تقال كانت كحجر يرمى في وجهها وعلى جسدها .. تدمي روحها وتمزق النسق الذي ينبغي أن تسير به الأمور حين يمشي المرء لبعض الوقت ..
تعرضت لمحاولة لمس وتحرش يدوي لكنها تفادتها برشاقة ومهارة من تعود على هذه الأمور، لكن مهما تعودت على هذا الأمر تظل ..
تمر بخوف وقلق كلما امتدت يدٌ لتلمس جسدها بقذارتها وتفزع راحتها وأمانها، 
كانت تعبر شارع فرعي حين مرت سيارة مسرعة وكاد صاحبها أن يدهسها قبل أن تسرع خطاها وتعبر، وبالإضافة لخوفها من  الدهس سمعت صاحب السيارة يصرخ فيها : عليك اللعنة يا بقرة .. 
مشت طويلًا حتى وصلت للبيت ، كادت أن تقع على الأرض من توترها مرتين وفي آخر لحظة تماسكت، ووصلت المنزل بعد مشي يفترض أنه أراحها وخفف توتر قلبها  أشد توترًا وخوفًا وقلقًا .. بدت كطفلة ترغب في الوقوع أرضًا والانخراط باكية بمرارة ..
تمنت في تلك اللحظة أن تموت، لا يبدو أنه في حياتها أي متنفس أو مخرج أو نهاية لكل هذا العذاب، رغبت بشدة أن تكون تلك السيارة قد دهستها أو أن تعلق نفسها في سقف غرفتها وتختنق أو حتى تتناول كمية مهولة من المنوم لتنام نومتها الأبدية ..
وأعادت مشاعرها تلك كل أفكارها السوداوية إلى رأسها وانفجر الوجع في قلبها .. ولم تدرِ ماذا تلوم أو من تلوم ..
وألقت اليوم لومها كله على أنها امرأة .. أنثى ..
لو أنها ولدت صبيًا لما ألقتها أمها ولما عاملتها عمتها بدناءة ولأمكنها التخلص من حياتها هذه ببساطة ..
لما عاملها المجتمع باحتقار ولما اضطهد أبسط حقوقها في المشي في الشارع العام مثلما تمشي الكلاب والقطط بأمان  ..
لو أنها لم تكن سلمى وكانت سالم أو أي اسم آخر مذكر ... 
لم تكن سلمى قادرة على البكاء حتى في أصعب الأوقات .. من وقت طويل أصبحت هكذا عاجزة عن ذرف الدموع ..
لكن كل فكرة تطوف برأسها تجعله يدور وقلبها يعصف وينزف مثل عصفور في يد تعصره بقسوة ..
في زاوية غرفتها انكمشت سلمى على نفسها وكأنها ابتلعت سمًا مريرًا تنهش بأصابعها وتحرث بأظافرها بشرة ذراعها حتى يسيل الدم ولا يبدو أنها تعي ذلك أو تشعر به ..
تدمر جسدها لأنها عاجزة تمامًا عن تدمير الألم والوجع اللذان تمر بهما.

Saturday, October 5, 2013

العد التصاعدي - 4

كانت العمة تصرخ بتشنج وتتوسل وتبكي : لا تذهب يا مصعب ، لم تبيعني بعد كل السنوات التي ربيتك فيها ؟ ابقَ هنا وكن رجل البيت أرجوك ..
لا دموعها تؤثر فيه ولا حرقة قلبها وكان يرد عليها : هل تسمين هذه حياة ؟
يكفيك البقرة التي تسمنينها بالأعلى سلمى .. استمتعي بتعفنها عندك للنهاية ..
غاضبًا ومحترقًا ومتألمًا وساخطًا خرج وأغلق الباب بعده يتمنى في نفسه ألا تكون سلمى قد سمعته، فلا ذنب لها في ما يحدث له..
لكنها كانت قد سمعت حوارهما وكلماته القاسية، ولم تتغير تعابير وجهها إطلاقًا ..
أيًا كان ما سيطلقونه عليها : بقرة أو خنزيرة أو دبابة فهي لا تأبه ..
لم تكن ضخمة بالمعنى الحقيقي، لكن بنيتها الصغيرة اختفت بسهولة تحت كومة الشحوم، ورغم محاولات إنقاص  وزنها الكثيرة والقاسية والطويلة استسلمت أخيرًا لدفن كآبتها في أطباق الطعام وأنواعه، لم يعد يجرحها ما يصفونها به، فهي تقريبًا شبه معزولة نفسيًا وتحمي نفسها بتجاهل كل ذلك أو التظاهر بأنها لا تبالي والانكماش على نفسها في عالمها، تقضي ساعات من الوقت تحدق في سقف الغرفة أو السماء من نافذتها الكبيرة أو تتسلى بقراءة روايات رومانسية تافهة مكررة بذات الأحداث والنهايات والمغزى ..
في أحيانٍ كثيرة يبدو أنها توقفت عن القتال في حياتها أو التساؤل لما يحدث لها ذلك ؟وتوقفت عن إقناع نفسها أنه يمكنها تغيير أي شيء، فلتبقَ ساكنة مثل بذرة نبات لم تواتها الظروف للنمو وبانتظار المطر تحت سطح التربة ليفجر الحياة فيها ..
لكن في الحقيقة كانت سلمى تعاني من علامات إكتئاب حادٍ نشأ معها منذ الطفولة وتعمق في روحها، ويظهر ذلك واضحًا في الكوابيس التي لم تنقطع لأكثر من ليلتين أو ثلاث طوال الأعوام الخمسة وعشرين الماضية، وفي تفريغ مشاعرها بالتهام كميات كبيرة من الطعام، وكذلك عانت في صغرها من أزمات عاطفية وتمزق نفسي شديد، بينما اصبحت في عمرها الآن أشبه بكائن لا تفاعلي مع ما حوله ..
أنهت حمامها وارتدت ملابسها بآلية دفاعية كأنها فصلت اتصالها حتى بنفسها ، ألقت نفسها على سريرها تحت النافذة وبقت تحدق في السماء لوقت طويل حتى غفت ..
..
في الصباح التالي استيقظت وهي لا تتذكر شيئًا عن ليلة البارحة، اتجهت إلى عملها كالمعتاد ، لم تتذكر نصر الذي يشاركها مكتبها إلا حين دخلت المكتب ووجدته جالسًا أمامها، شعرت بمغصٍ في بطنها ورمت نفسها على كرسيها دون إلقاء التحية، وبهذا أظهرت نفورها منه مباشرة، أما هو فقد قرر اليوم أن يمد لسانه ويلهث قليلًا ، بادرها بالتحية : صباح الخير آنسة سلمى . .
التفتت إليه ووضعت عينيها في عينيه وبدتا عينيها خاويتين مخيفتين حتى أنه أرجع ظهره للخلف وبدأ يخفض رأسه ويلوم نفسه على حماقته ، وفجأة ابتسمت ببرود وقالت : صباح النور أستاذ نصر، لم ألحظ وجودك!

Friday, October 4, 2013

العد التصاعدي- 3

بعد رحلةٍ قصيرةٍ إلى المنزل بدا كأنها استغرقت آلاف العواطف وأحرقت طاقة سلمى كلها؛ وصلت سلمى لما يمكن أن يسمى منزلها، فهي تعيش هنا منذ أن كانت في الخامسة من عمرها، مع عمتها العجوزالعانس وبضعة من أبناء الأقارب الذين ليس لديهم مأوى  سوى هذه العمة العجوز ومنزلها الذي تديره بما يرسله أهل هؤلاء الأبناء العاجزين عن الاعتناء بأبنائهم بأنفسهم. سلمى بقيت هنا اضطرارًا بعد وفاة والدها وزواج أمها من رجل آخر واختفائها في بلادٍ بعيدة، مجبرة على البقاء هنا في مجتمعها المعتوه رغم كراهيتها لهذه الحياة وكراهيتها لعمتها العجوز ذات العقلية المريضة.
دخلت من الباب وألقت التحية وردت عمتها العجوز عليها، ثم أخبرتها أن الغداء معدٌ في المطبخ وأنها لا ترغب في تناول وجبتها معها، سألتها عن ابن عمها مصعب - الذي يعيش معهم في نفس المنزل- ، فأجابت العجوز بعيونٍ شبه دامعة : يريد الانتقال لشقة مع زملائه، ولم تدرِ سلمى هل دموع العجوز حزنًا على المال أم على الصبي !
كانت سلمى تعمل وتساهم قليلًا بشكل أو بآخر في مصروفات المنزل من راتبها الجيد، وتدخر بعضه، كما أن عمتها كانت تستلم مبلغًا شهريًا من تركة والد سلمى تدرها التجارة التي لازال أعمامها يديرونها بعد موته وموت الجد، بمعنى آخر كانت سلمى تعيش في منزلٍ فاخر وحياة أعلى من المتوسطة ، وبوسعها لو أصرت أن تحصل على حياة مرفهة ومريحة لو رغبت، لكنها تصر على الخروج من سلطة العمة الكئيبة وسلطة الأسرة المزعجة بمحاولات الاستقلال المادية من بضعة سنوات.
اندفعت سلمى إلى غرفتها بدون المرور على المطبخ، فقدت شهيتها العظيمة عندما دفعتها عمتها قسرًا للتفكير بحياتها، لم لا يمكنها هي الآخرى الانتقال لمكان تعيش فيه مع صديقاتها أو حتى لوحدها؟ .. ليتها كانت صبيًا كمصعب! أو بالآحرى ليتها تملك حريتها! لا ينقصها شيء لتصبح حرة .. تجاوزت الثلاثين .. مستقلة ماديًا ، ناضجة فكريًا ونفسيًا، يعيبها في هذا المجتمع أنها امرأة وأنها تقريبًا عانس كعمتها العجوز، لم تستطع الحصول على زوجٍ جيد ولم تقبل بمن جاءها من الرجال، والرجل الوحيد الذي أحبته نهبها مالها بدموعه المبتذلة التي صدقتها آنذاك بكل سذاجة، وما عدا ذلك لا حظ لديها بالرجال أو معهم.
كان الوقت عصرًا حين فتحت نافذتها و ألقت نفسها على سريرها تحت نافذتها المفتوحة وبحلقت تتابع الستائر التي تروح وتجيء مع الريح وتكشف عن السماء والسحاب البديع لشهر أيلول، سحبت قميصها واشتمت رائحته .. جعدت أنفها وهي تشم رائحة العرق التي تغرقه و حدثت نفسها بالنهوض للحصول على حمام دافيء، وقفت أمام المرآة تطالع نفسها، ما الذي سيرغب به أحد ما في كومة الشحم هذه ؟ تبحث عن نفسها التي تذكرها في صباها.. ولا تجد تلك الصبية الجميلة الخفيفة مهما حدقت وحدقت في المرآة  .. لا يوجد أمامها سوى كتلة من الشحوم ووجه بغير عمر محدد .. لا يمكن معرفة إن كانت في العشرين أم في الأربعين لكن جسدها يبدو لامرأة أنجبت عشرة أبناء واحدًا تلو الآخر دون توقف ولا رحمة.
تحمل منشفتها وملابسها وتتجه صوب الحمام لتغرق نفسها بالماء الدافيء والصابون المعطر وسائل الاستحمام برائحة اللافندر العميقة وفجأة خلال استحمامها تسمع صوت صراخ عمتها وبكاءها ويتداخل معه صوت مصعب يتشاجر معها .. 

Thursday, October 3, 2013

العد التصاعدي - 2

وبعد أن أستقر نصر في كرسيه المؤقت وانغمس في بضعة أوراق ليعدل في بياناتها بقلم أحمر ، كانت تتلصص عليه من حين لآخر وتسأل نفسها باندهاش : كيف يمكن لشخصين أن يتشابها هكذا ؟
وبعد بعض التدقيق لاحظت الكثير من الاختلاف في ملامحه لكن الحضور المتشابه لكليهما هو ما شدها إليه ..
ليس لديهما نفس الأنف والعينيين لا تتشابهان رغم أن لهما اللون نفسه تقريبًا، موضوعتين تحت حاجبين ليس فيهما ما يميزهما غير فوضاهما الواضحة لكنها ليست بغيضة بكل الأحوال، الشفتين تنطبقان بشكل مضحك كأن أحدهما يستعير شفتي الآخر وابتسامته الساذجة المنفرجة عن أسنان مرصوفة بغير أي عناية بلون ليس أبيضًا ولا مصفرًا ، الجبين هو نفسه لدى الشخصين أيضَا .. لكن هناك الكثير من الاختلافات التي تجعلهما شخصين مختلفين لو وقفا بجوار بعض .. إذا هو الإحساس الذي يطبعه كلاهما في حضوره ما يجعلها تشعر أنهما متشابهين بشكل صادم ..
نصر أيضًا كان يتلصص عليها حين تدفن نفسها في أوراقها وفي شاشة حاسبها، بفضول يناسب شخصية الكلب التي يحملها، بتلك الطريقة الذليلة التي يشاهدها بها وهو يتظاهر بأنه لا يفعل وفي الوقت نفسه لا يشعر بنظراتها التي تتسلل إليه وتفحصه شبرًا شبرًا، يتطلع إليها بجوعٍ وخنوعٍ وعدم قدرة على المبادرة بأي كلمة ولا حتى أي حركة مبادرة أو حتى إظهار أي اهتمام، أو اعتذار عن مزاحمتها في مكتبها العطن الممتليء بالأوراق والأرف الحديدية ذات المسامير الصدئة تعبق رائحتها وتمتزج بالغبار والأوراق القديمة وفتات الزمن المنسي في هواءها المخنوق والذي لا يتجدد إلا من باب الغرفة الصغير، وحتى في تلك الإضاءة الخافتة المتناسبة مع عطانة الجو كان قادرًا على تبين ملامحها المدفونة تحت خمسين كيلو إضافية محملة على جسمها الذي ينوء بحمله ويتمنى أن يخلع ثوب هذه الشحوم ويخرج بهيئته الجميلة والحقيقية التي تختفي ولا يمكن لأحد أن يراها.

سلمى ببساطة أدركت أن نصر الجالس في المكتب قبالتها بشخصيته المقرفة ليس سوى مصدر إزعاج لجوعه وفضوله لا أكثر، وليس مصدر تهديد قطعًا، ولا يشبه الشخص الآخر صاحب الشخصية التمساحية وهذا ما جعلها تنفر منه بشكل طبيعي كأنه عاد فجأة مخلوقًا غريبًا عنها بعد أن شعرت لوقتٍ قصير بأنه مألوف.
انتهى الدوام الطويل لهذا اليوم أخيرًا وانطلقت تلملم أغراضها بخفة لا تتناسب مع وزنها الهائل وأعادت نظارتها إلى علبتها وألقتها في حقيبتها وأسرعت بالمغادرة مرورًا بحافظة التوقيع وخربشت اسمها بعجالة وأسرعت إلى الشارع لتوقف أول سيارة أجرة تصادفها ..
لا يريد
 هذا اليوم أن يسير بهدوء أبدًا ، فسائق سيارة الأجرة التي أوقفتها يقودها بسرعة هائلة والنوافذ مفتوحة يندفع منها الهواء بقوة،  شعرت كأنها تحلق في طائرة صغيرة وتمسكت بمقعدها وهي تحبس أنفاسها مرعوبة وتمر في ذاكرتها صورة الحادث الذي مرت به قبل سنواتٍ طويلة .. ومنعها كبرياؤها من سؤال السائق أن يخفض السرعة قليلًا واستمرت الرحلة المجنونة وقطعت السيارة مسافة 20 دقيقة في خمس دقائق لا أكثر وحين شعرت ببعض الطمأنينة لاقترابها من المنزل أخطأ السائق الطريق الفرعي وطالت المسافة لتشعر بكثيرٍ من الاختناق وهو يزيد سرعته ليلتف من شارعٍ آخر ويعود إلى الطريق....
(يتبع )

Wednesday, October 2, 2013

العد التصاعدي - 1

تجلس على مكتبها بخمول هذه الأيام، لا شيء ينعشها ويعيد لها حيويتها، تفكر مرارًا في أن هذا العمل أقل من قدراتها وما تملكه من مهارات ، وأن كل ما صقلته طوال السنوات الماضية سيذهب هباءً إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، لن تتقدم وكل ما بذلته لن يعني شيئًا ، لكنها بحاجة ماسة لهذا العمل .. أو هذا ما يفرضه الواقع المبتذل لشخصٍ يدعي أنه يحاول الخروج عن النمطية والتقليد لكنه ينكمش في بيضة نفسه متجنبًا القتال مع الآخرين .. 
 سلمى  اليوم تسير في عامها الواحد والثلاثين رغم أن  ذلك لا يبدو عليها مطلقًا ، سأصفها لكم بدقة في يومٍ آخر.. لأني سأتحدث عن شيء آخر اليوم.
 من بضعة أشهرٍ التحقت بوظيفة إدخال البيانات هذه في منظمة تهتم بشؤون اللاجئين ، عملية مملة ومكررة وتسير بسياق واحد كل الأيام ، لا يتغير فيها إلا كم الأوراق التي ينبغي أن تحول بياناتها إلى مدخلات رقمية مرمزة بشكل بسيط، وهكذا تمر أيامها يتخللها كوب قهوة أو قطعة بسكويت تسحقها بين أسنانها وتدفنها في بطنها إلى جوار آلاف السعرات الآخرى يوميًا والتي تتحول إلى بطن تكبر وتكبر من الجلوس إلى شاشة الحاسب لساعات طويلة .
هذا الصباح مختلفٌ قليلًا ..
هناك شخصٌ يشاطرها المكتب، ولو لبعض الوقت، تم نقله من مكتبه لفترة قصيرة بسبب عمليات تنظيف الجرذان التي التهمت الملفات وتكاثرت في المخزن تحت كومات الملفات والدواليب القديمة هذا الربيع ، لنتوقف قليلًا عند لحظة مجيء هذا الشخص: 
طرق الباب المشرف العام على قسم البيانات والأرشفة : آنسة سلمى .. هل يمكن لزميلنا نصر مشاركتك المكتب لبضعة أيام خلال عملية إبادة الجرذان في مكتبه ؟
هزت رأسها إيجابًا بلا مبالاة ودون ذرة فضول واحدة لتهتم بمن يكون هذا نصرالذي سيشاركها مكتبها ..
تم نفض الغبار عن مكتب مجاورٍ لها لا أحد يستخدمه وجلب عامل النظافة كرسيًا بحالة جيدة ..
ثم طرق نصر الباب ..
رفعت رأسها لترد تحيته بلباقة عامة عادية .. لكنها لدهشتها أخذت تبحث عن نظارتها التي كانت على عينيها ..
"إلهي كم يشبهه!"
كان نسخة منه .. بل كأنها تراه مشوشًا قليلُا وبدون نظارات .. 
تمتمت وأنفاسها تتصاعد ..
أخفضت رأسها ودفنته في كومة ورقها مجددًا بعد أن ردت تحيته
لم تجرؤ على رفع وجهها ولا النظر في عينيه ، مرعب أن تلتقي بشخص يشبهه إلى هذا الحد بعد أن عجزت عن رؤيته لخمس سنوات رغم أنهما يعيشان في نفس المدينة ..

(يتبع)